طهارة الظاهر والباطن

الخطبة الأولى

نجد نموذجاً من نماذج هذا الدين اعتناء الإسلام بنظافة العبد الحسية والمعنوية، نجد النبي صلى الله عليه وسلم يقول من جوامع كلمه “الطهور شطر الإيمان”، الطهور: من الطهارة، والشطر بمعنى النصف، والإيمان معروف ما هو الإيمان، أي أن معظم شريعة الإسلام والإيمان تشترط الطهارة في العبادات وفي أحوال العبد مع الله تبارك وتعالى، نجد مثلاً أن من أراد أن يصلي فلا بد عليه أن يتوضأ، قال الله عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...” إلى آخر الآية. فاغسلوا وجوهكم وغسل الوجه لأنه تحصل به المواجهة ليوم القيامة، والمقصود بغسل الوجه ليس الحسية فقط، إنما المقصود باطن عمل الموجه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: إذا غسل العبد المسلم أو المؤمن خرجت منه كل خطيئة عصت بها عيناه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وإذا غسل يده خرجت كل خطيئة بطشتها بها يده مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وهكذا. وفي رواية عند مالك والنسائي: إذا تمضمض العبد أي أدخل الماء وغسل فمه، خرج من فيه كل معصية عصت بها لسانه، وإذا استنثر (الاستنشاق إدخال الماء ثم الاستنثار إخراجه من الأنف) خرجت منه ذنوبه حتى تخرج من بين أشفار عينيه.

يا أيها العبد، هل تدري ماذا يحصل عندما تتوضأ ليس مجرد أن تغسل وجهك أو قدميك أو يديك، إنما هي دلالات وإشارات وعلامات وأسرار أنت لا تعلمها، ولو علمتها لأحسنت الوضوء ولأسبغت الوضوء، أي أتقنته وأحسنته، لأن الوضوء يفتح لك سر الصلاة، ولذلك لكل خزينة باب، ولكل باب مفتاح.

عندما تتوضأ يحصل بذلك أنك تتهيأ لأن تدخل في سر الصلاة، ما هو سر الصلاة؟ سأذكر آية قرآنية وحديثاً نبوياً فقط يشرح هذا المعنى، وإلا لو أردت أن أسرد الآيات والأحاديث لما كفت هذه الخطبة، يقول الله عز وجل في هذه الآية يخاطب فيها نبيه موسى عليه السلام: “وأقم الصلاة لذكري”، ما معنى أقم الصلاة لذكري؟ هل كل من يحضر إلى الصلاة يحضر من أجل ان يتصل بالله فيذكره؟ هل الداعي هو شوقك إلى الله؟ أو أنك أحسست بأنك محتاج إلى الله؟ أم خرجت من بيتك بلا حضور قلب ولا استشعار ذوق أو أدب مع الله تبارك وتعالى؟ لأن من يصلي الصلاة، فإن للصلاة رزقاً، وإن للصلاة نوراً، وإن للصلاة عطاءً. فكل على حسب نيته وصدقه والدافع الأكبر إلى الصلاة أخذ تلك الأرزاق والأنوار وأسرار الشريعة من الله تبارك وتعالى.

ومن أسرار الصلاة أن يخرج العبد منها وقد ازداد خشوعاً، ينبغي لمن صلى الفجر وأراد أن يصلي الجمعة أن يكون خشوعه بعد صلاة الجمعة أكثر من خشوعه بعد صلاة الفجر، لماذا؟ لأنك مع كل صلاة تصليها، ومع كل سجدة تسجدها تقترب إلى الله عز وجل بنص قوله: “كلا لا تطعه واسجد واقترب”. فكم سجدة سجدتها من قبل؟ لا بد مع كل سجدة أن تقترب، وكلما اقتربت ازداد خوفك، وكلما دنوت ازداد حياؤك، وكلما تقربت ازداد فهمك. ولذلك يقول الله عز وجل: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، لأنهم أقرب الناس إلى الله جل جلاله.

ومن رحمة الله عز وجل لما علم أن من عباده عباداً يحبون هذا المعنى، أن يتصلوا بالله خاشعين، ففتح لهم مجالاً آخر وهي الصلوات الغير مفروضة. ولذلكم من ذاق حلاوة الصلاة المرتبطة بمفتاحها وهو الوضوء لا يستطيع أن يصبر عن الصلاة، فتجده دائماً يكثر من النوافل. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لسيدنا بلال: إني لأسمع طرق نعليك في الجنة. النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا الحديث في عالم الدنيا، وبلال لا زال في عالم الدنيا لم يمت! قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بم هذا يا بلال؟ قال: والله يا رسول الله كلما أحدثت (أي انتقض وضوئي) توضأت وصليت ما كتب الله لي من الصلاة. يتوضأ ويحسن وضوءه ثم يصلي ركعتين،ولم يأت وقت الحساب ولا الحشر وأنت قد سبقت بنعاليك إلى الجنة.

بوسع الواحد منا أن يكون مثل بلال رضي الله عنه وأرضاه، لن يكلفه شيئاً غير أن يتوضأ ويصلي ركعتين لله عز وجل. هذا نوع من أنواعه، ولكن اليوم كثير من المسلمين تركوا الصلاة أصلاً، ومنهم من يصلي الجمعة فقط، ومنهم من يدّعي كاذباً على الله “يفترون على الله الكذب”، فإذا قيل له لم لا تصلي؟ فيقول: الله لم يهدني، كاذب! تسمع لوسوسة الشيطان! بل أنت لا تريد، ولو كنت تريد الهداية فعلاً لخضعت لربك وتمرغت بين يديه ساجداً، وتبكي صائحاً وتقول: اللهم اهدني فيمن هديت، ولو كنت طلبت الهداية فوالله لا ترفع رأسك من السجود إلا وقد هداك الله، “أمن يجيب المضطر إذا دعاه”، لكن إذا المضطر لم يدعوا، فيف يستجاب؟ ولو دعا الله مخلصاً لكفاه الله “أليس الله بكاف عبده”.

والحديث الذي نذكره لكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”، ما هي قرة العين؟ قرة العين هو أعظم شيء تتمناه نفسك، بل تراه فيسعدك، فمن الناس من تكون قرة عينه أن يرى أولاده يحملون الشهادات العليا، وآخرون قرة أعينهم أن يمتلك سيارة فاخرة، والآخرون يموتون بأحلامهم وتبدّد حتى إذا وضعوا في قبورهم وجاء منكر ونكير لإيقاظهم من قبرهم لسؤالهم قالوا: “يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون”.

يا أيها المسلمون، يا من نعتقد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ونعتقد أن الصلاة ركن عمود من أركان الإسلام، هل لنا أن نجعل في أنفسنا أن نجعل قرة أعيننا في الصلاة أن نتصل بالله وأن نشتاق إلى الله وأن نتلذذ بأن نقف بين يديه مرتلين كلامه؟

كيف يتيسر لك أن تقرأ القرآن وأنت لا تحفظه؟ ليس في جوفك شيء من القرآن، كيف؟ ربما من المسلمين الأعداد الهائلة يعيش سنوات طوال وليس في جوفه من القرآن إلا قصار السور، عليها يحيا وعليها يموت، ولم يفكر يوماً أن يأخذ من وقته سويعات يتحفظ فيها آيات من القرآن.

إذا قمت للصلاة خاطب قلبك أنك عما قليل ستدخل في صلة مع الله تبارك وتعالى، حدّث قلبك وأخرج منه كل ما تفكر فيه من أمور دنياك، فلعلها لحظة تكون من اللحظات التي تقرّ بها عينك يوم القيامة، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.

الخطبة الثانية

يا أيها العباد، أهم طهارة هي طهارة القلوب عن الأحساد والأحقاد والضغينة والكره والبغض والاحتقار والكبر والعياذ بالله تبارك وتعالى. تعلمون من هم أصحاب الجنة؟ يقو النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “أكثر أهل الجنة البُله”، هل سمعت بهذا الحديث؟ ما هو البُله؟ لا تظننّ أن البُله هي جمع أبله، والذي في مصطلح الناس اليوم أن الأبله هو الذي لا يغُش، الأبله هو الذي يكون صالحاً في عمله، وليس الأبله هو الغبي.

من أراد أن يدخل في الإسلام وأن يتذوق حلاوته فلا بد أن يخرج من قلبه كل نجاسة القلوب من أحقاد وأحساد وكبر وغير ذلك. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلس في مسجده مع الصحابة، فقال لهم: يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة، بشارة عظمى، من يكون هذا الرجل؟ مع أن كبار الصحابة جالسون بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، أبو بكر وعمر وكلهم، فإذا برجل من الأنصار تقطر لحيته ماء يحمل نعاله بين يديه، فدخل المسجد، فصلى تحية المسجد ثم جلس مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يبدو أنه لا يعرف ماذا قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأعجب الصحابة بهذا الإنسان، فقام عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فتبعه حتى استأذن أن يبيت معه في منزله، فأذن له، فبات معه، وكان المقصود أن يبيت معه في بيته لا أكل ولا شرب ولا نوم ولا راحة، ولكنه يريد أن يعرف ما هوالعمل الذي جعله من أهل الجنة، ويبشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عنده ثلاثة أيام، ولم ير شيئاً مميزاً، لم ير قيام ليل ولا أعمال مميزة. في اليوم الثالث قال له الذي حدث وما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: لم أجدك كثير صلاة قيام ليل أو صيام، فما الذي تعمله؟ قال لا أعمل إلا ما رأيت، أصلي الصلاة في المسجد، وأصلي الرواتب، وأذهب إلى البيت، إلا أنني قبل أن أنام لا أحمل في قلبي حسداً ولا حقداً ولا غشاً لمسلم. أبات وأنا قرير البال سليم القلب. فكان ذلك سبباً لدخوله الجنة.

فيا أيها المسلمون، من أراد منا أن يدخل الجنة فلا يبت ليلته إلا وقد طهّر قلبه من أن يحمل على مسلم أو يحسد عليه أو يتكبر عليه، “ولمن خاف مقام ربه جنتان”.