ايها الولد 4

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع ، ذلك أن العلم المجرد يبقى في خزينة الأوراق وطيّ السجلات إلى أن يتحول إلى عملٍ يلمَسُ أثره وتظهر تطبيقاته وينتفع من عوائده .. والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل الأركان .. والعبد يبلغ الجنة بفضل الله تعالى ولكن بعد أن يستعد بطاعته وعبادته .. ولو بقي على الإيمان مجرداً من العمل فأول ما يخشى عليه أن يُسلَبَ الإيمان ، فإن لم يسلب الإيمان سيصل إلى الحساب خائفاً مفلساً ... فكيف سيكون له حظ في الجنة وقد ورد أن الله تعالى يقول ” ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم ” .

وأنت أيها الحالم لن تنال أجراً ما لم تقدم عملاً .. يقول سيدنا علي رضي الله عنه :- ” من ظن أنه بدون الجهد يصل فهو متمنٍّ ، ومن ظن أنه ببذل الجهد يصل فهو مستغنٍ ” إنّ طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، ولو كان العلم المجرد كافياً لك ولا تحتاج إلى عمل لكان النداء: ” هل من سائل ... هل من مستغفر ... هل من تائب .. ” ضائعاً لا فائدة منه.

والمشتغل في فضل النفس ومناقب الدنيا يظن أن العلم المجرّد سيكون نجاته وأنه في غنىً عن العمل .. وهذا ما يعتقده الفلاسفة ... يظنون ذلك لتعسهم ولا يدرون أنهم إذا لم يعملوا بما علموا فإنّ الحجة عليهم ستكون أكثر تأكيداً .. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أشد الناس عذاباً يومَ القيامة عالمٌ لا ينفعه الله بعلمه

وعالم بعلمه لم يعملن معذبٌ من قبل عباد الوثن

وضرب الغزالي على ذلك مثلاً رجل ببريّة عنده سيوف قواطع وحراب لوامع لكنه لا يستخدمها ولا يمدّ إليها يداً .. جاءه أسد ... فماذا يفعل؟؟؟ إن لم يستخدم ما لديه من سلاح هلك ... العلم بحاجة إلى تطبيق وإلاّ سيبقى علماً مجرداً محصوراً بين دفتي كتاب أو في جوانب دماغ لا يستفيد منه ..

العبادة الصحيحة بحاجة إلى علم .. لأن الجهل لا يحلل حراماً ولا ينقذ من عقاب إلا إذا كان المرء منعزلاً عن الآخرين لا يستطيع الاتصال بهم ولم يعلّمه أحد من قبل أما إذا كان بإمكانه الإتصال بالعلماء فلا عذر له بجهله ولا ينجيه سوى أن يلزمهم ويأخذ عنهم مبادئ وأحكام دينه فيعبد ربه عن علم ودراية ...قال تعالى ” فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ”

واعلم أن أعلى مراتب العلم :-

1. أن تعمل بكل ما تعلم أو بكل ما علمت ، وتعلم غيرك ،وتدعو الناس الجاهلين إلى العلم .. وأنت بهذا عاملٌ وداعية إلى الله تعالى... ومثلك يدعى ( الوارث النبوي ) لأن الأنبياء يورثون العلم والدعوة إلى الله وأنت تعلمت وتدعو إلى الله عز وجل .. ومن أراد أن يحوز هذه المرتبة فعليه اتباع ما يلي :-

· إخلاص النية

· أن يلتزم شيخاً يأخذ عنه العلم .. فالعلم في الصدور لا في السطور

· أن يدوّن ما يُملى عليه ويحرص على أن لا يفوته شيء

· أن لا يؤجل عمل يومه إلى غده .. بل يعمل بالمسألة فور تعلمها ويعزم على تنفيذها عزماً قوياً

2. أن يعلم غيره وأةل ما يبدأ بزوجته وأولاده والمقربين منه ، عند ذلك تظهر عليه الأنوار بسرعة ، ويعطى أسرار ، ويترقى في مقاعد الأبرار .. وهذا يحتاج منه إلى تخطيط للحياة والمستقبل ، والعمل بما علم حتى يأتيه الموت .

3. أن تعمل ببعض ما تعلم إلى جانب تعليم ودعوة غيرك إلى العلم في دائرة دعوتك إلى الله ، والداعي يغلب عليه تعليم ودعوة غيره .. وربما ينقص عمله قليلاً مما يجب .

4. أن تعمل بعشر ما تعلم كالزكاة بأن تخرج من مالك ربع العشر فإن أخرجت ممن علمك ربع عُشره فسوف تعطى نور العلم .. يقول العلماء ” من عمل بآدب الإستنجاء متبعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليه نور العلم ...نقطة الإنطلاق من موطن الخلاء ، فكيف إذا عمل بسنن الوضوء والصلاة والعبادات لا شك أنه ستظهر عليه أنوار وأسرار وعطيّات...

من ملك مالاً كثيراً يترتب عليه أمراًن : الزكاة وهي فرض ، والصدقات وهي تطوع ، فمن اكتفى بالزكاة فقد أسقط الفرض ونال أجره ، ومن زاد عليها بالصدقات فإن الله عز وجل يعطيه الأجر ويحبه ويقربه ويزيد في ماله... كذلك العلمُ.. إذا عملت بجزء منه تحصّل أجراً لكنك إذا زدت فإنك تتنور أكثر وتقرّب أكثر وتحصل من إرث النبوة على حصّةٍ أكبر وتذوق حلاوة الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

5. أن تعمل بالعلم ولو مرة واحدة :- عندها تنسب إلى أهل العلم لكنك لن تكون من خواصتهم.

6. أن لا تعمل بالعلم ولكن تعلّم غيرك وبهذا لا تخلو من خير وتنال أجر التعليم لكن يفوتك سرّه ... كمن يدعو الناس إلى طعام ولا يأكل ... ينال أجر الدلالة .. بعض الناس لا يستطيع حضور مجالس العلم لكنه يستطيع أن يتكفل بنفقات طالب علم ..فيحصل على أجر مماثل لأجره ويعتبر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” من جهّز غازياً فقد غزا” .

7. لا تعمل ولا تعلّم غيرك لكنك تعزم أن تعمل في المستقبل .. يُرجى لك بعض الخير إن كنت صادقاً في عزمك... وتوفّق لعمل الخير... لكنك في أدنى المراتب.

إن ما تتعلَّمه بحاجة إلى تطبيق وبدون التطبيق يبقى العلم نظرياً سرعان ما يزول وينمحي ، مريضٌ يضع الدواء إلى جانبه ينظر إليه ولا يشربه... كيف سيبرأ...؟؟؟؟ جائع يقلّب كتاباً في علم الطبخ ويتعلّم تحضير الطعام وتقديمه ومكوناته وفوائدها هل يشبعه ذلك ؟؟؟ أو يحفظ حياته ؟؟؟ طبعاً لن يغني ذلك شيئاً .. كذلك المتعلم دون تطبيق ينظر إلى الخير لكن يده لا تصل إليه...

هناك فرق بين العلم والمعلومات ، بالعلم نهتدي إلى ما يريده الله منّا وإلى ما يحبه فينا.. وبالمعلومات لا ندرك ذلك.. بالعلم تُختصر المسافة بين العبد وربّه فيدرك من الإلهام أضعاف ما حصل من علم.. ولكن جامع المعلومات أشبه بالحاسوب .. آلة تختزن علماً... لذلك ينبغي أن يطّلع المربي على ما نقرأ من علوم وبإمكانه أن يرشدنا إلى طريق نسلكه يوّر علينا وقتاً وجهداً ويوصلنا إلى نتيجة مرضية توصلنا إلى سر العلوم وتأخذ بيدنا إلى ما فيه خير .

لو قرأنا العلم مئة سنة ثم لم نعمل به لم ينفعنا ذلك العلم شيئاً بل سيزيد المسؤولية التي نحاسب عليها...

دون سعي لن ندرك شيئاً من خير العلم.. فالجزاء على قدر الكسب... ولا يكفي للإنسان إذا أخطأ أو وقع في ذنب أن يقول “تبتُ إلى الله” ولا يكفيه أن يهجر العمل السيء فقط بل يريد الله منا أن نعمل صالحاً بدل عملنا السيء.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).. لتثبت فعلاً أنك تائب.. ألا ترى أن الأعمدة الخمس التي بني عليها الإسلام ليس فيها إلا عمود واحد قولي وما تبقى اعمدة قوامها العمل.. لا يعمر بناء الإسلام بالأقوال.. إنه يحتاج العمل والتضحية ونكران الذات.. والتفاني في خدمة الدعوة.. هكذا قامت دولة الإسلام!

ولو جمعنا الف كتاب في ذاكرتنا لا نتهيأ لرحمة الله تعالى إلا بالعمل (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى).. (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا).. إذ لا أجر بدون عمل.. أي نفع يجره عليك علم الكلام وعلم الخلاف والطب والدواوين والأشعار والنجوم والعروض والنحو والتصريف غير تضييع العمر بخلاف ذي الجلال.. كل يوم ينظر الله في قلبك ويقول لك: ((عبدي طَهَّرت ما ينظر الناس منك سنين، وما طَهَّرت موضع نظري إليك ساعة)) ثم يقول لك ((ما تصنع لغيري وأنت محفوف بخيري.. أما أنت أصمّ لا تسمع؟!..

هل سألت نفسك لماذا أعمل أعمالاً صالحة؟ إنك تعمل ذلك لخمس أسباب:

1- امتثالاً لأمر الله وتحقيقاً لعبوديتي له

2- لأن الذي يعمل صالحاً يكون مظهره مظهر افتقار إلى الله عز وجل.. لأن الكفار كانوا يقولون: (لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا)..ولو أراد الله أن يهدينا لهدانا.. ولو أن الله تعالى أعطى عبده نعمة من غير أن يطلبها ربما يجحدها أو ينسبها إلى نفسه فيدخل في كفر آخر.. كما قال قارون (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي).

فلا يردع العبد إلا المنع وقديما قالوا ” كل ممنوع مرغوب”.. وكذلك قد يكون المنع سبباً لأن تقرع باب ربك بذل وانكسار وتناديه في الأسحار (يا من ليس لي سواه إليك أرفع حاجاتي وأنت أعلم بها مني..). وحاذر ان يراودك خاطر سوء فتقول: أدعوه ولا يستجيب لي.. إنه يستجيب دعاءك فيعطيك إياه في الوقت الذي يريده هو لا الذي تريده أنت.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلوا الله كل شيء حتى شسع نعالكم)).. أي: حتى الشريط الذي تشدون به النعال إلى أرجلكم.. وعوّدوا أولادكم أن يقولوا يارب أطعمنا.. يارب اسقنا.. يارب اكسنا.. ثم أحضروا لهم الطعام والشراب والكساء وقولوا لهم: هذا من عند الله تعالى.. فينشؤون على محبة الله تعالى الذي يوفر لهم كل شيء..

3- إذا قمت بعمل صالح فانوِ به الترقي إلى أعلى مراتب الجنة واطلب صحبة الحبيب المصطفى صلوات الله عليه.. موقناً أن عملك لن يبلغك تلك المراتب مالم يتفضل عليك الله برحمته ويشفع لك رسول الله عند ربك..

4- اطلب مع العمل حصول الصلة مع حضرة ربك.. وكلما قويت صلتك كان المدد أشد وأبقى (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)