الفرق بين المسلم والمؤمن
الخطبة الأولى
يا عباد الله، إن وقع الميزان يوم القيامة، يوضع على أثر الإيمان وعمقه في القلوب وكل ما كان الإيمان متعمقا في قلوب أتباعه فإن لسان الميزان يرجح عند ذلك لأصحابه، وإن من أثقل وأعظم ما يُثقل الميزان يوم القيامة هي أعمال القلوب، والتي فرط فيها أكثر الناس، وأعني بالناس هم المسلمون، أما غيرهم فإنهم كفروا بالله ورسوله، والله عز وجل يقول: “فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا تزهق أنفسهم وهم كافرون”. لكن المسلمين إذا لم يتعمق الإيمان في قلبه تجده ينهزم عند أي مصيبة تنزل عليه أو أي كارثة تحل به أو بمن حواليه، فيضطرب الإيمان في قلبه. لذلك أكثر ما يهز قلوب المؤمنين أو قلوب المسلمين ما يتعلق بشؤون حياتهم.
ما الذي يختلج في عقولنا ويلازمنا حتى عند نومنا بل ربما لا يفارقنا حتى في صلاتنا بين يدي الله عز وجل؟ ما هو الشيء غير همّ الرزق الذي يتوالى على الإنسان في حياته ويقظته وفي صلاته وسجوده؟ ولربما يقف المؤمن بين يدي ربه يقول “إياك نعبد وإياك نستعين” ولا يدري ما قال ولا يستشعر ما معنى العبودية ولا معنى الاستعانة، فيظل يرددها ولا يعي معناها.
يا أيها العباد، إن هناك مسلم وهناك مؤمن، ولا بد أن تعرف الفرق بينهما حتى تعلم في أي قوم أنت ومن أي جماعة أنت، هل أنت من المسلمين، أم أنت المؤمنين؟ لو جلستُ على هذا المنبر أعدد صفات المسلم وصفات المؤمن فلن يكفيني أن أضل واقفاً خطيباً إلى صلاة العشاء، ولكن سأورد لكم حديثاً من أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين صفة من صفات المسلم وصفة من صفات لامؤمن، ثم بعد ذلك ضع نفسك أنت في ميزان حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأظن والله أعلم أن أكثر ما يحدث في العالم الإسلامي، وخاصة في علاقتهم مع الله تبارك وتعالى أو مع الآخرين بسبب أنهم لم يتحققوا بعلامات المسلم التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، نقف قليلاً عند هذا الحديث، ترى من يقول أنا مسلم ويتبجح بذلك ويرفع راسه ويقول “أنا مسلم”، ولكن تجد لسانه ملطخاً بقاذورات الكلمات، فتجده يسب ويلعن وتجده يغتاب وينم، وتجده يضحك على عباد الله، وربما امتدت يده لإيذاء المسلمين سواءً كان قتلاً أو ضرباً أو لمساً أو كتابةً أو إشارة. لو أنك آذيت مسلماً ولو بإشارة بيدك، استحقرته أو استنقصته، فإنك تعد خارج عن نطاق المسلمين، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “من غشنا فليس منا”، ربما هذا الغشاش يصلي في الصف الأول، وربما يصلي الصلوات الخمس، ولكنه غشاش، ليس من جملة المسلمين الذين يحشرون مع رسول الله، والين قال الله عنهم: “يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه”، وركز على كلمة “معه”، فإن من كان في معية النبي صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة لا يُخزى، ما معنى “لا يُخزي”؟ أو تظن أن الخزي فقط يوم القيامة؟ كلا! لا يُخزى في دنياه ولا عند الموت ولا بعد الموت، ولا حظة وضعه في القبر، ولا يوم البعث والنشور ولا الخروج منالقبور ولا المجاز على الصراط حتى دخول الجنة.
من اراد أن يكون في ذلك الركب فعليه أن يحفظ هذا اللسان، فلا يؤذي مسلماً، فربما أخرجت كلمة لا تلقي لها بالاً، وتُضحك بها الآخرين لكنها تقع في قلب المسلم موقعاً أثقل من الجبال الرواسي، وتظل في قلبه. واعلم ان حزن المؤمن أو حزن المسلم ودمعته ليست بالهينة عند الله، كما روي: “لهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من أن يُكسر خاطر مسلم”.
إن مكانتك يا أيها المسلم عظيمة عند الله تبارك وتعالى، بدليل أن الله عز وجل يبغض من يغتابك، يكره من يسبك، يعاقب من يتكلم عليك، وربما تعصيه في الليل، وربما تعصيه في النهار، وهو يغضب ممن يتكلم عليك ويزعجك يؤذيك، وربما أنت لم تغضب له، ولا تبالي في ليلة من الليالي هل الله راض عنك أم لا، مشغول بماذا؟ بالرزق الذي أعطاك الله؟ مشغول بملابسك التي كساك الله؟ مشغول بأولادك الذين وهبك الله؟ إنما عليك أن تكون من الذين استخدموا نعم الله في شكره بها جل جلاله وتعالى في علاه.
الإسلام والإيمان يظهر أثره عند الصدمة الأولى، فلو كنت موظفاً مجتهداً تعمل بإخلاص وجد، وفجأة من غير مقدمات وجدت ورقة الاستغناء عن خدماتك، ما وقع هذا الخبر على قلبك؟ فإن كنت مسلماً ومؤمناً وتتوقع الموت في أي لحظه لهانت عليك تلك المصيبة. من كان يتوقع أن يموت في أي لحظة فدون الموت هين، أما لو كنت بنيت إيمانك وإسلامك على شفا جرف هار فإن ستنهار لحظة سماع الخبر.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم البقيع ليسلم على الموتى ويدعوا لهم، فوجد امرأة جالسة أمام قبر تبكي وتولول وتصيح، فدنا منها رسول الله وقال لها: يا أمة الله، اتقي الله واحتسبي واصبري، فقالت: تنح عني إنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وخرج من المقبرة ولم يقل شيئاً، فعندما خرجت تلك المرأة استقبلها أحد الصحابة فقال لها: ماذا كان يقول لك ذلك الرجل، فقالت: قال كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، فقال: ويحك هل تدرين من هذا؟ قالت: من؟ قال هذا رسول الله، فذهبت إليه معتذرة وتأسفت بين يديه، فقال: لا عليك، إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
إنما الصبر والإيمان يثبت لحظة نزول الخبر على قلبك، فإن نزل الخبر ولو كان كالصاعقة وكنت لست قوياً أحرقتك تلك الصاعقة كما تحرق الصواعق الأشجار، ولكن لم نر صاعقة هدمت جبلاً! لأنه قوي وراسخ، والمؤمن لا بد أن يكون قوياً راسخاً كما قال صلى الله عليه وسلم عندما نزل قول الله تبارك وتعالى في المنافقين: “ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم”. المنافق يقول أنا آسف، لا أستطيع لأن مالي وبيتي وطعامي أحب إلي منك (لسان حاله). فعندما نزلت تلك الآيات قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “والله لو أُمرت بذلك لكنت أول الخارجين”. ثم قال ذلك ثابت بن قيس، ثم قال ذلك عمر بن الخطاب، ثم قال ذلك عمار بن ياسر، ثم قال ذلك بقية الصحابة الكرام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “إن من أمتي رجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسخ”، لكلّ إلى شأو العلا درجات، ولكن عزيز في الرجال الثبات.
أسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم على طاعته ومرضاته وأن يحفظ ألسنتنا وأيدينا وجوارحنا من أن نؤذي مسلماً ظاهراً أو باطناً.
الخطبة الثانية
قال عليه الصلاة والسلام: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، فكيف بمسلم لم يسلم أبوه ولا أمه من لسانه ويده، فكم من البنات والشباب آذوا آباءهم وأمهاتهم بكلمة أو بفعل أو بتصرف أو بعبوس وجه ظل في قلب الأم إلى أن ماتت. كيف تصنع يا من آذيت أباك وأمك والله عز وجل قال: “ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما”.
والحديث الآخر: “المؤمن من أمِنه الناس أو أمّنه الناس على أموالهم ودمائهم”، فإذا وصلت إلى حالة أنك صرت مؤتمناً على أحوال الغير وعلى دمائهم وعلى أعراضهم فأنت مؤمن، لأن المؤمن الصالح هو الذي يحفظ المال والخزائن والاقتصاد. قال الله عز وجل: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون”، ما أكثر الخونه واللصوص وما أكثر الذين يسرقون أموال الناس ظلماً، ولكن السارق واللص والظالم عمره قصير.
قبل أن يظهر رسول الله وقبل أن يجهر بالدعوة وقبل أن يُبعث إليه كان كفار قريش عبدة الأصنام والأوثان أصحاب الأموال والثروات، وكانوا إذا أرادوا أن يسافرون في رحلة الشتاء والصيف إلى بلاد الشام أو بلاد اليمن أين يضعون أموالهم وثرواتهم غير عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما أمر بأن يظهر ويجهر بالدعوة فأول من كذبه هم أصحاب الأمانات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذبوه وآذوه وسبوه وعذبوا أصحابه، فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل قال افعلوا ما شئتم فأموالكم لن تأخذوها مني؟ لم يفعل ذلك، بل أعاد الأموال كلها، بعد أن هاجر صحابته بقي هو وصاحبه وسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فعندما لم يأت أصحاب الأمانات قال: يا علي، بت على فراشي ولا تلحق بي إلا بعد أن تعيد الأمانات إلى أهلها. وهم كفار مشركون مغتصبون ظالمون، صدق من قال فيك “وإنك لعلى خلق عظيم”.
فهل نحن مؤمنون؟ يأتي الواحد منا يغش في البضاعة، تغش من؟ تغش أخاك المسلم؟ تغش أخاك المؤمن؟ تشتري الدنيا والعياذ بالله بالآخرة؟ هل الآخرة أهون عليك من جرعة ماء تشربها أو من لقمة ترمي بها في حلقك؟! ألا إن سلعة الله غالية.
ومن أعظم ما يهز الإيمان في القلوب لحظة خروج الروح عند الموت، فنسأل الله عز وجل أن يُثبتنا وإياكم.